في لحظة الغروب تأخذ إهمج معناها الأول، التماهي بين غروب الشمس. وإهمج ليس ذاتيا أو مزاجيا، إنمّا يستمد مسوغّه من سمات اجتماع إهمج وطبائع ناسها. فاللون الحيادي الجميل الذي تلبسه القرية لحظة تواري الشمس تدريجاً في الأفق البعيد، يشبه إلى حدّ بعيد وداعة إهمج وطيبة أهلها. ليست الوداعة أو الطيبة نسقا يوتوبيا في إهمج. هناك، الناس والبيوت والشجر والجغرافيا تداخلوا منذ ماض بعيد لتأبيد هذه الطيبة التي تسم فضاء إهمج العام.
لا شكّ في أنّ لطبيعة إهمج الجغرافية ولموقعها أثراً بالغاً في تكوين شخصيّة القرية وخصائص معيشها اليومي. فالقرية التي تقع في منتصف الطريق بين ساحل قضاء جبيل وجرده العالي (العاقورة وجوارها)، ومنه إلى البقاع وأرض بعلبك، شكّلت – منذ الحقبة الرومانية – ولا تزال، محطّة أساسية بين الساحل والجرد. كذلك فإنّ نوعية التربة في إهمج، وتوافر مصادر عدّة للمياه فيها، وخلو جغرافيتها من الانحدارات الحادة وميلها في المساحة المسكونة إلى التموج بين انخفاضات وارتفاعات خفيفة، جعلت من هذه القرية، التي يبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر نحو 1250 متراً، قرية زراعية منذ عهود قديمة.
وإذا كان المجتمع الزراعي يميل في طبيعته إلى الانغلاق والاكتفاء الذاتي، فإنّ موقع إهمج أوجد لدى أهلها مرونة كافية للتعاطي مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعة، وقابلية للتكيف مع أي معطى جديد. حتى أنّ الزراعة التي كانت المورد الأساسي لعيش أهالي إهمج حتى منتصف القرن الماضي، حيث كانت زراعة التوت والعنب وبعدهما التفاح تغطّي مساحات واسعة من أرض القرية وخراجها، أخذت تتراجع تدريجاً منذ نحو ستين عاما، إلى أن انحصرت منذ ثمانينيات القرن الماضي في أعالي إهمج قرب منطقة اللقلوق، حيث المناخ الطيّب صيفاً ووفرة المياه. لكنّ اللافت أن تراجع الزراعة لم يدفع اغلبية أهالي إهمج إلى النزوح عن قريتهم إلى الساحل اللبناني أو حتى إلى الهجرة خارجاً. وذلك بخلاف اغلبية القرى الجردية في قضاء جبيل التي تصل نسب النزوح في بعضها إلى أكثر من 90 في المئة.
عوامل عديدة تتضافر لجعل إهمج مأهولة بنحو 60 في المئة من أهاليها شتاء، وهي نسبة مرشحّة للارتفاع في السنوات المقبلة بحسب أهالي القرية. فتأهيل الطريق الذي يربط جبيل بإهمج فاللقلوق خلال السنتين الماضيتين شكلّ
منعطفاً اساسياً في حياة إهمج، إذ أوجد قابلية للازدهار السياحي والتجاري في المنطقة التي غرقت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في سبات عميق سببه في الدرجة الأولى سوء حال المواصلات فيها. ويشير طوني أبي يونس، صاحب أحد المطاعم في إهمج، إلى أنّ ما بعد تأهيل الطريق، يكاد لا يشبه في شيء ما قبله، «إذ انّ نحو 30 في المئة من أهالي القرية عادوا للسكن فيها شتاء. كما شهدت حركة الاصطياف تطوّراً ملموساً خلال السنوات الأخيرة. وعادت الحركة إلى شوارع إهمج طيلة أيّام الأسبوع». والجدير ذكره أنّ عدد سكّان إهمج يبلغ نحو 3700 نسمة، تسجّل أسماء 2450 منهم على لوائح الشطب.
كذلك فإنّ قرب إهمج من «مزار القديس شربل مخلوف» في «دير مار مارون – عنايا»، سمح لنحو 400 من أبنائها بالعمل داخل الدير، أو في المؤسسات التابعة له. كما تحوي إهمج عددا من الصناعات الخفيفة، مثل الألومنيوم، والنجارة، والخرطوش. هذا إضافة إلى إفادة العديد من الإهمجيين من موسم التزلّج من خلال تأجير مستلزمات التزلّج لقاصدي مركز التزلّج في اللقلوق.
«لماذا ننزل إلى المدينة ما دام كل شيء مؤمنا لدينا؟» يسأل أبي يونس، يضيف :«الطرق مؤمنة شتاء. بفضل مركز جرف الثلوج في إهمج، والمواصلات متوفرة بسبب باصات عدّة تنقل الأهالي والتلاميذ من وإلى جبيل، كذلك
فالمدارس مؤمنة لمن يرغب في تعليم أولاده هنا». وللتعليم في إهمج تاريخ قديم إذ تعود أولّ مدرسة جماعية فيها إلى العام 1849، وقد أزيلت أطلالها منذ سنوات قليلة بعد بيع العقار الذي كانت مشيدة عليه. بعدها أسّست «جمعية راهبات العائلة المقدسة» سنة 1909، مدرسة ابتدائية في القرية. وهي لا تزال تستقبل تلاميذ إهمج وجوارها. كذلك أنشئت متوسطة رسمية في إهمج في ستينيات القرن الماضي، لتضم ابتداء من سنة 2002 فرعاً لثانوية جبيل الرسمية. لكنّ متوسطة إهمج وثانويتها تعانيان، شأنهما شأن غالبية مدارس جبيل الرسمية، نقصا حادا في التجهيزات الصفية والمختبرات التطبيقية، ما يجعل العديد من الأهالي يحجم، للأسف، عن تسجيل أولاده فيهما. ويرى العديد من أهالي إهمج وفعالياتها ضرورة لإيلاء المدرسة الرسمية اهتماماً أوسع لناحية التجهيزات اللوجستية وتطوير المناهج التعليمية.
أمّا الطبابة فهي موضع وجع أهالي جرود جبيل منذ زمن بعيد، إذ لا وجود لمستشفى خاص أو حكومي في ريف جبيل كلّه، باستثناء مركز طبّي في قرطبا لا ترقى خدماته إلى مستوى خدمات المستشفى. وإذا كان مشروع بناء مستشفى
حكومي في ميفوق (جرد جبيل الشمالي)، قد يبصر النور قريباً، وذلك بعد وهب الرهبانية اللبنانية المارونية قطعة أرض لبنائه، وتأمين تمويل له من الصندوق السعودي، فإنّ بُعد المستشفى المذكور عن قرى عديدة في الجهة الجنوبية من جرد جبيل يحتم محافظة تلك القرى على الوسائل المتبعة في ما يخصّ الطبابة، أي تأمين سيارة إسعاف دائمة في القرى تنقل المرضى إلى أقرب مستشفى، وتأمين الدواء من المستوصفات في حال توفره، وإلا فمن المدينة. وفي إهمج مستوصفان واحد تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، وآخر ترعاه الرابطة الثقافية الاجتماعية في إهمج، والمستوصفان يؤمنان بعض الأدوية فضلاً عن خدمات طبية أولية.
لا غلو في القول إنّ إهمج تشكّل نموذجاً لإمكان ديمومة الحياة في القرى الجردية صيفاً شتاءً، خصوصاً عندما يقف المرء على واقع القرى المجاورة التي تكاد تخلو من ناسها شتاء. وقد يكون موقع إهمج وجودة الطرقات المؤدية إليها عاملين أساسيين في نموّها، لكنّ ازدهارها يعود بالدرجة الأولى إلى تكاتف أهلها وتعاضدهم في ما بينهم على ما فيه خير قريتهم، وهذا ما يجعل من إهمج مضرب مثل في قضاء جبيل، ساحلاً وجرداً.